قصة بائع الحكمة
يُحكى أنه في يوم من الأيام خرج أحدَ الولاةِ ، وهو متنكر في زي تاجر ليتجول في السوق القديم ، ويتعرف على أحوال العامة والرعية ، وبينما هو سائر وقع بصره على دكان قديمٍ لا يوحي بوجود بضاعة للشراء ، فقد كانت البقالة شبه خالية من أي شيء قد يقع موقع الإعجاب لدى المرء .
وكان بداخلها يقف رجل طاعن في السن ، يجلس في وهن على مقعد متهالك قديم ، ولم يكن يلفت نظر الوالي حينها سوى بضع لوحات تراكم عليها الغبار ، فاقترب من ذلك الرجل المسن وألقى عليه التحية ، فرد الرجل التحية بأحسن منها ، وهو هادئ النفس يشع منه وجهه اليقين والثقة
فقال له الوالي : يا رجل جئت السوق كي أشتري ، ولكني لا أرى عند ما يباع ! ، فأجاب الرجل بكل بهدوء وثقة : عندي أثمن بضائع السوق وأحسنها ، قال تلك الجملة وملامحه جامدة لا يبدو فيها أي إشارة للمزاح ، فما كان من الوالي إلا أن ابتسم وقال له : أجاد أنت فيما تقول ؟
فقال الرجل بثقة : نعم كل الجد فبضائعي غير كل البضائع التي في السوق ، وهي لا تقدر بثمن ، أما بضائع السوق فلكل منها ثمن لا تتعداه ، فاندهش الوالي لسماع تلك الكلمات من الرجل المسن ، وأخذ يقلب بصره في المكان لعله يجد أي شيء غالي ونفيس ، ولكنه لم يجد .
وقال للشيخ : إنني لا أرى في دكانك أي شيء للبيع ، فقال الرجل : أنا أبيع الحكمة للناس ، وقد بعت منها الكثير وانتفع بها كل من اشتراها ، وبقى عندي منها لوحتين ، فسأل الوالي الشيخ قائلًا : وهل تكسب من هذه التجارة يا شيخ ؟ ، فقال الرجل وقد ارتسمت على وجهه ابتسامة عذبة : نعم يا سيدي إنني أربح منها ما يكفيني ويزيد ، فلوحاتي غالية الثمن .
فأمسك الوالي بلوحة من اللوحات المعروضة ومسح عنها الغبار ، فإذا بجملة مكتوبة بخط جميل تقول : فكر قبل أن تعمل ، تأمل الوالي العبارة مليًا ، ثم التفت إلى الشيخ يسأله عن ثمن اللوحة ، فقال له : أبيعها بعشرة ألاف دينار فقط ، فضحك الوالي وبالغ في ضحكه ظنًا أن هذا الشيخ يهذي ، وقال له هل أنت جاد فيما تقول ، فرد الشيخ بكل هدوء : ولا جدال في الثمن .
فظن الوالي أن العجوز رجل مختل وأخذ يسايره ويساوم في ثمن اللوحات ، ولكن الرجل رفض أن ينتقص من الثمن دينارًا واحدًا ، فانصرف الوالي وهو يظن أن الرجل سينادي عليه من جديد كما يفعل الباعة في الأسواق ، ولكنه لاحظ أن العجوز لم يكترث وعاد يجلس على كرسيه بكل هدوء .
فسار الوالي وأخذ يتجول في السوق ، وفجأة راودته فكرة سيئة وقبل أن يهم بفعلها تذكر حكمة الرجل العجوز : فكر قبل أن تعمل ، فتراجع عن فكرته تلك ، ووجد في قلبه انشراحًا ورضا لموقفه هذا ، فأدرك قيمة الحكمة وانتفع بها .
وعلى الفور قرر الرجوع لدكان العجوز لشراء الحكمة بالثمن الذي قال ، فلم يبتسم العجوز ووقف بكل هدوء ونفض الغبار عن لوحته ، ثم أعطاها للوالي وتناول ثمنها كاملًا ، ولكن قبل أن ينصرف قال له العجوز : لقد بعتك هذه اللوحة ولكن لي شرط ، فقال الوالي وما هو ؟
قال الشيخ : أن تكتب تلك الحكمة في كل مكان ببيتك ، على الباب والحائط وحتى أدواتك التي تستخدمها دائمًا ، لم يدرك الوالي الغرض من وراء هذا الشرط ولكنه وافق على كل حال ، ولما عاد إلى قصره نفذ وعده وأمر بكتابة تلك الحكمة في أماكن متعددة بالقصر ، حتى على بعض ملابسه وكثير من أدواته كتب عليهم .
وتوالت الأيام والشهور وفكر قائد جند الوالي في التأمر عليه وقتله ، لينفرد بالولاية واتفق مع حلاق الوالي على فعل ذلك مقابل الكثير من الإغراءات ، ولما وصل الحلاق إلى قصر الوالي شعر بالارتباك والخوف ، خاصة حينما رأى العبارة المكتوبة على باب القصر : فكر قبل أن تعمل .
ولكنه استجمع نفسه وطرد خوفه ودخل إلى الممر الطويل ، لكنه رأى العبارة نفسها تتكرر مرات ومرات في كل مكان: فكر قبل أن تعمل ! فكر قبل أن تعمل !! فكر قبل أن تعمل. ! ، وهنا قرر الحلاق أن يخفض بصره وينظر للأرض ؛ حتى لا يرى تلك العبارة ثانية ، ولكنه حينما فعل ذلك رأى نفس العبارة منقوشة على البساط في الأرض .
فدب الخوف في قلبه دبيبًا وازداد خوفًا واضطرابًا ، وحاول أن يتمالك نفسه وهو يدخل حجرة الوالي ، ولكن ما إن انفتح الباب حتى رأى تلك اللوحة معلقة وعليها نفس العبارة ، فابتعد بنظره عنها ونظر للوالي ، فهاله أن يرى الثوب الذي يرتديه ، وقد كتب عليه نفس العبارة فشعر أنه هو المقصود بتلك العبارة .
بل انتابه شعور بأن أن يحضر صندوق الحلاقة الخاص بالملك ، ووجد عليه نفس العبارة : فكر قبل أن تعمل ، أسقط الصندوق من يده وانهار أمام الوالي واعترف له بكل شيء ، فعفا عنه الوالي ولكنه أمر بإلقاء القبض على قائد الحرس وأعوانه .
وبعدها وقف الوالي يمعن النظر في تلك الحكم التي اشتراها من العجوز بائع الحكم ، ونفض ما عليها من غبار وأخذ يتأملها في فخر وزهو ، وقرر أن يذهب للسوق ثانية ويشتري حكمة جديدة ، ولكنه حين ذهب وجد الدكان مغلق وأخبره العامة أن العجوز قد مات .
إذا أتممت القراءة صل على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم فمن صلى عليه صلاة صلى الله عليه عشرا